نبع الشهادَة .. قصة قصيرة
يدٌ تَربتُ على كتفِ محمد برعشةٍ ؛ لتوقظَه مِن الغوصِ في أعماق الماضي ، ماضٍ حَمَلَ في طيَّاتِه ألمًا ألمَّ بمحمد حدَّ الاحتضار ، إنها يدُ الأمِّ التي ما أنْ أحسَّت أنَّ ابنها منهمكٌ في التفكير مُطأطِئُ الرأسِ معتكفٌ غرفَتَه حتَّى سارعَت إلى إيقاظِه مِنْ شرودِه الذهني ، أم محمود امرأة في الخمسينيات ِمِنَ العُمر ، لو نظرتَ إلى جبهتها لرأيتَ تجاعيدَ حُزنٍ تُدمي المُقل ، كيف لا !! وابنها الأكبر قد باغتته رصاصةُ غدرٍ صهيونيَّةٌ في مؤخرة رأسه أردَتْه شهيدًا ، الفدائيُّ لا يُقتَل مِن الأمام لأنَّ الموتَ نفسه يخشاهُ ، وزوجُها قد عقدَ قِرانَه مع قضبانِ السجونِ الإسرائيلية لمدى الحياة بعد عملية بطوليَّة ، لقي على إثرها عشرَ مستوطنينَ حتفَهم .
استفاقَ محمد والدمعةُ لم تبرحَ وجنتيه ، لم تستطع أمه تمالك نفسَها فأرغمت عينيها على البكاء ؛ بعد أنْ جفَّت دموعُها مِن مرارةِ ما شاهدته بأمِّ عينيها ، فقالت له بعد ذلك معاتبةً :
وبعد أنْ بكيت ، ماذا ستعيد إليك ، أخاك ، أباك ، هل ستعيدُ إلى ثغري بسمته !!
- أمِّي دعيني وشأني ، سأكون بخير بعد قليل .
- لن تكونَ بخيرٍ ، طالما لم تغادِر غرفتك الممزوجة بالسواد . ، ألم تعد تريدُ أنْ ترتبطَ بِفِداء ، إنْ أردتَ سأذهب غدا وأطلبها مِن والدتها ...
- السوادُ لَنْ يبيضَّ حتّى أردَّ ثأرَنا وثأرَ كل دمٍ فلسطيني روى هذه الأرض الطاهرة ، " فداء " تستحقَّ الحياة بينما أنا سأرتبط بفلسطين ، دَمي سيكون المهر .
قال جملته الأخيرة ، وغادر غرفته والشرُّ ترقرقَ مِن عينيه ، أحسَّت الأم بخطرٍ قدْ يخطِف سعادتها الأخيرة .
أحيانا حينما يحتكُّ الحبُّ بالحربِ يصلُ فَتيلُ الاحتكاك ذروتَهُ ؛ فالحبُّ في الحربِّ مخاضُ ثورةٍ تُنْجِبُ الحريَّة .. الثوري يمتلك قلبًا يتسع للكونِ أجمَع ، لَنْ يضيقَ فؤاده أبدًا طالما يده على زِناد البندقية . محمد الثوري قلبه تعلق بفداء .. تلك الفتاة التي كانَت زميلاتها في الجامعة يلقبونها بِ " جيفارا " ؛ كانت تضع بصمتها في كل حشدٍ جماهيري ثوري غاضب ، تهتفُ بصوتٍ عالٍ ، تشجبُ الخوفَ القابع في النفوسِ ، محمد جبانٌ نوعا ما وخصالُه ليست على شاكلة والده أو أخيه ؛ لكنه عرفَ مِنْ أينَ يؤكل فؤاد فداء ، كانت قبل فترة قد أودعت جهازها المحمول عِنْدَه لتصليحه ؛ فهو يعمل في مجال تصليح الأجهزة الخلوية وحينما أتت لتأخذه دار حديثٌ بينهما :
- هل أستطيع أنْ أستسلم جهازي ، أم أنك لم تصلحه بعد .
- غريب أمر " التلفون القديم " ما بال شاشته تُكْسَر كلَّ شهر مرَّة ، يبدو أنَّك عصبيَّة كثيرًا !!
- لا لا يا محمد " حارتنا ضيقة وبنعرف بعض " ، العصبيَّة ليست مِن شيمي ، لقد سقط مِني حينما كنت أقوم بواجبي تجاه وطني ، نسيتُ نفسي وأنا أهتف أفديكَ بدمي يا فلسطين فسقط أرضا .
- أرى الوطنَ في عينييكِ يا فداء ، رِمشُكِ ما أجمله للوهلة الأولى خِلْتُه سارية للعلم ليتني أحظى بالاقتراب من السارية .
- " فهمت مراده " فقالت : الجبناء لا مكان لهم بجانب العلم .
أخذت جهازها وغادرت المكان غاضبةً ، وكان لكلمتها الأخيرة وَقْعًا في داخلِه ، فكرَّ كثيرا حتَّى أخرَجَ الأسدَ الكامِنَ في داخِلِه ، فتذكَّر أنَّ له ثارًا عندَ قاتل أخيه ولا يُمْكِن أن يجلبه بالجلوسِ في محل لتصليح الأجهزة الخلوية ، أدرك أنَّ تصليح النفس أهم بكثير .
محمد الشاب الذي يبلغ مِن العمرِ عشرينَ عاما وَنيِّف لَمْ يرمِ يومًا حجرا على الاحتلال ، كانَ " جيب " الاحتلال حينما يدخل المخيَّم تنهالُ عليه الحجارة كزخات المطر ، لا أحدَ يقفُ متفرجًا إلا الجبناء والعملاء ، ومحمد كانَ يتبعُ للصنفِ الأول . جُبنُه الآن تحوَّل إلى شجاعةٍ واستئسادٍ منقطع النظير . فالوطَنُ لا يقبل أنْ يعيش الجبناء والعملاء في كنفِه ، الآن الكوفيَّة لا تفارق وجهَه ، ويدُه لا تفارق زِنْادَ البندقيَّة ؛ فلقد انخرطَ في صفوف المقاومة وأصبحَ على شفا حفرةٍ مِن الشهادَة .
بعدَ ثلاثة شهورٍ مِن دخوله عالم النِضال قرر أنْ يقدم دمه قربانًا للوطن ، قبَّل يدَ أمه صباحا قبل أن يغادر البيتَ ، وقال لها " اليومَ تعلو زغاريدُكِ السماء " وانصرف بعدها ، لم تعي أمَّه ما يقصد ؛ فهي لا تعرف أنّه بات مناضلا شرسا لا يخاف الموت . بعدها توجَّه إلى فداء في الجامعة واعترض طريقها وأعطاها كوفيَّته قائلا : " حقَّ لي اليوم أنْ أحظى برمشك ، سألقاكِ في الجنَّة إنْ شاء الله " . انصرف بسرعة دون أن يسمع ردَّها ، فاتبعتْه خلسةً لتعلم ما قصده ، ما أنْ وصلَ إلى الحاجز الصهيوني حتَّى أشهرَ بندقيَّته صوبَ كل الجنودِ ، قتل مِنهم الكثير ، فرح كثيرًا وظنَّ أنّه قضى على الجميع فأدار ظهره للحاجز رافعا بندقيته للسماء لكن رصاصة مِن جندي لا زال على قيد الحياة أصابته في قدمه فتلفَّت بسرعة لكن رصاصة أخرى باغتته فأصابت فؤاده وأردته قتيلا . كل هذا وقع تحت أنظار فداء . شدَّت بكلتا يديها على كوفيته وأمطرت عيناها دمعًا وانصرفت وضميرها يكاد يقتلها تأنيبا ، وصل الخبر المخيّم فما أنْ سمعت أم الشهيد الخبر حتى علت زغاريدها أعالي السماء " .
استفاقَ محمد والدمعةُ لم تبرحَ وجنتيه ، لم تستطع أمه تمالك نفسَها فأرغمت عينيها على البكاء ؛ بعد أنْ جفَّت دموعُها مِن مرارةِ ما شاهدته بأمِّ عينيها ، فقالت له بعد ذلك معاتبةً :
وبعد أنْ بكيت ، ماذا ستعيد إليك ، أخاك ، أباك ، هل ستعيدُ إلى ثغري بسمته !!
- أمِّي دعيني وشأني ، سأكون بخير بعد قليل .
- لن تكونَ بخيرٍ ، طالما لم تغادِر غرفتك الممزوجة بالسواد . ، ألم تعد تريدُ أنْ ترتبطَ بِفِداء ، إنْ أردتَ سأذهب غدا وأطلبها مِن والدتها ...
- السوادُ لَنْ يبيضَّ حتّى أردَّ ثأرَنا وثأرَ كل دمٍ فلسطيني روى هذه الأرض الطاهرة ، " فداء " تستحقَّ الحياة بينما أنا سأرتبط بفلسطين ، دَمي سيكون المهر .
قال جملته الأخيرة ، وغادر غرفته والشرُّ ترقرقَ مِن عينيه ، أحسَّت الأم بخطرٍ قدْ يخطِف سعادتها الأخيرة .
أحيانا حينما يحتكُّ الحبُّ بالحربِ يصلُ فَتيلُ الاحتكاك ذروتَهُ ؛ فالحبُّ في الحربِّ مخاضُ ثورةٍ تُنْجِبُ الحريَّة .. الثوري يمتلك قلبًا يتسع للكونِ أجمَع ، لَنْ يضيقَ فؤاده أبدًا طالما يده على زِناد البندقية . محمد الثوري قلبه تعلق بفداء .. تلك الفتاة التي كانَت زميلاتها في الجامعة يلقبونها بِ " جيفارا " ؛ كانت تضع بصمتها في كل حشدٍ جماهيري ثوري غاضب ، تهتفُ بصوتٍ عالٍ ، تشجبُ الخوفَ القابع في النفوسِ ، محمد جبانٌ نوعا ما وخصالُه ليست على شاكلة والده أو أخيه ؛ لكنه عرفَ مِنْ أينَ يؤكل فؤاد فداء ، كانت قبل فترة قد أودعت جهازها المحمول عِنْدَه لتصليحه ؛ فهو يعمل في مجال تصليح الأجهزة الخلوية وحينما أتت لتأخذه دار حديثٌ بينهما :
- هل أستطيع أنْ أستسلم جهازي ، أم أنك لم تصلحه بعد .
- غريب أمر " التلفون القديم " ما بال شاشته تُكْسَر كلَّ شهر مرَّة ، يبدو أنَّك عصبيَّة كثيرًا !!
- لا لا يا محمد " حارتنا ضيقة وبنعرف بعض " ، العصبيَّة ليست مِن شيمي ، لقد سقط مِني حينما كنت أقوم بواجبي تجاه وطني ، نسيتُ نفسي وأنا أهتف أفديكَ بدمي يا فلسطين فسقط أرضا .
- أرى الوطنَ في عينييكِ يا فداء ، رِمشُكِ ما أجمله للوهلة الأولى خِلْتُه سارية للعلم ليتني أحظى بالاقتراب من السارية .
- " فهمت مراده " فقالت : الجبناء لا مكان لهم بجانب العلم .
أخذت جهازها وغادرت المكان غاضبةً ، وكان لكلمتها الأخيرة وَقْعًا في داخلِه ، فكرَّ كثيرا حتَّى أخرَجَ الأسدَ الكامِنَ في داخِلِه ، فتذكَّر أنَّ له ثارًا عندَ قاتل أخيه ولا يُمْكِن أن يجلبه بالجلوسِ في محل لتصليح الأجهزة الخلوية ، أدرك أنَّ تصليح النفس أهم بكثير .
محمد الشاب الذي يبلغ مِن العمرِ عشرينَ عاما وَنيِّف لَمْ يرمِ يومًا حجرا على الاحتلال ، كانَ " جيب " الاحتلال حينما يدخل المخيَّم تنهالُ عليه الحجارة كزخات المطر ، لا أحدَ يقفُ متفرجًا إلا الجبناء والعملاء ، ومحمد كانَ يتبعُ للصنفِ الأول . جُبنُه الآن تحوَّل إلى شجاعةٍ واستئسادٍ منقطع النظير . فالوطَنُ لا يقبل أنْ يعيش الجبناء والعملاء في كنفِه ، الآن الكوفيَّة لا تفارق وجهَه ، ويدُه لا تفارق زِنْادَ البندقيَّة ؛ فلقد انخرطَ في صفوف المقاومة وأصبحَ على شفا حفرةٍ مِن الشهادَة .
بعدَ ثلاثة شهورٍ مِن دخوله عالم النِضال قرر أنْ يقدم دمه قربانًا للوطن ، قبَّل يدَ أمه صباحا قبل أن يغادر البيتَ ، وقال لها " اليومَ تعلو زغاريدُكِ السماء " وانصرف بعدها ، لم تعي أمَّه ما يقصد ؛ فهي لا تعرف أنّه بات مناضلا شرسا لا يخاف الموت . بعدها توجَّه إلى فداء في الجامعة واعترض طريقها وأعطاها كوفيَّته قائلا : " حقَّ لي اليوم أنْ أحظى برمشك ، سألقاكِ في الجنَّة إنْ شاء الله " . انصرف بسرعة دون أن يسمع ردَّها ، فاتبعتْه خلسةً لتعلم ما قصده ، ما أنْ وصلَ إلى الحاجز الصهيوني حتَّى أشهرَ بندقيَّته صوبَ كل الجنودِ ، قتل مِنهم الكثير ، فرح كثيرًا وظنَّ أنّه قضى على الجميع فأدار ظهره للحاجز رافعا بندقيته للسماء لكن رصاصة مِن جندي لا زال على قيد الحياة أصابته في قدمه فتلفَّت بسرعة لكن رصاصة أخرى باغتته فأصابت فؤاده وأردته قتيلا . كل هذا وقع تحت أنظار فداء . شدَّت بكلتا يديها على كوفيته وأمطرت عيناها دمعًا وانصرفت وضميرها يكاد يقتلها تأنيبا ، وصل الخبر المخيّم فما أنْ سمعت أم الشهيد الخبر حتى علت زغاريدها أعالي السماء " .
بقلم: سامي عواودة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق