الصبح كئيبٌ ، والندى باكٍ مُثقلاً بحقائب السفر الطويل ، الصبحُ يمسكُ بيدي يستحلفُني الانتظار ، فلهُ معي ألفُ قصة ورواية تستحقُ البقاء ، أفلتُ يدَهُ عنوةً ، وقلتُ له : قد حانَ موعدُ الرحيل ، سأراكَ في مكانٍ آخر ، فقال لي : إنِّي أعشقُ نسيم قريتك ، فهلَّا أبقيتني هُنا ، فلقد تعودُّتُ الإشراقَ على هذه الأرض .
انتظرتُ قطارَ الثامنةِ صباحاً للسفر لعالمٍ آخر ؛ لعلي أجد ضالتي هناك ، استوقفتني لبرهةٍ ذكرى أمي وهي تحيكُ لي سترةً تقيني بردَ الشتاء ، رفعتُ رأسيَ قليلاً مخاطباً ذاتي : " لا وقتَ الآن للمشاعر " ، الساعة الآن السابعة وخمسون دقيقة ، لم يتبقَ إلا عشر دقائقَ لكي أنضم لقافلة المغتربين .
الوقتُ يمرُّ عليَّ كسلحفاةٍ أُجبِرت على دخول مسابقةٍ للركضِ لمسافة المائة متر ، بدأت ذاكرتي باستحضارِ دهاليز قريتي الصغيرة ، فتذكرتُ رفاق الدربِ حينما كنّا نسير سوياً في كل صباح للذهاب لمدرسة القرية ، تذكرت إخوتي حينما كنّا نوقدَ النار عند اشتداد البرد ، تذكرت دمعات أمي لحظة قراري السفر ، تذكرت عظاتَ والدي الذي كنتُ أرافقه أينما ذهب .
صوت القطار القادم من بعيد أوقفَ حربَ التفكير التي دارت في عقلي ، فطأطأتُ رأسي وأجهشت بالبكاءِ بصوتٍ خافت ، فخاطبني صديقي عليّ : " هيّا يا صديقي فلقد أتى القطار ، من الآن تَرَحّم على أيام الشقاء ، واستعد لأيام السعـادة " . رفعت رأسيَ قائلاً له : " زخارفُ الدنيا كلها لا تساوي دمعةً من دموع أمي ، لن أسافر معك ، سأرجع لميرمية القرية ، فلقد اشتقت لها " .
بقلم: سامي عواودة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق